بعد الحرب العالمية الثانية بوقت قصير، يُقال إن حوارًا دار بين جوزيف ستالين وونستون تشرشل حول مستقبل بولندا. فقد أثار تشرشل قضية الكاثوليك البولنديين محذرًا من أن التغييرات المقترحة ستُغضب البابا في روما. عندها، وبسخرية معروفة، التفت ستالين إلى تشرشل وسأله: "كم فرقة عسكرية لدى البابا؟"
كان التعليق، رغم ازدرائه، يحمل حكمة قاتمة: فالسلطة الأخلاقية، عندما تنفصل عن القوة العسكرية، غالبًا ما يكون تأثيرها ضئيلًا في النزاعات السياسية الكبرى. وبعد ثمانية عقود، ما زال هذا الواقع يتردد في عالمنا اليوم. فقد أظهرت مأساة غزة الجارية كيف يمكن للقانون الدولي والمعايير الإنسانية وحتى موجات الغضب الأخلاقي أن تُتجاهل تمامًا في غياب النفوذ الفعلي. إن الحملة الإسرائيلية قوبلت بأكثر من إدانات رمزية، وظل أهل غزة يعانون لأن من قد يدافعون عنهم يفتقرون إلى "الفرق العسكرية" التي تفرض التغيير.
تكشف هذه الحقيقة المرّة درسًا مركزيًا في التاريخ: الدبلوماسية والمناصرة والمقاومة الشعبية قد تؤثر في النتائج، لكنها لا تعوّض عن "القوة الصلبة". وبدونها، تخاطر الدول والحركات على حد سواء بأن تُرسم مصائرها بأيدي الآخرين.
طبيعة الحرب ونشأة الدراسات الاستراتيجية
التاريخ يعلمنا أيضًا أن الحروب لا تُحسم بالشجاعة وحدها. فقد يخسر المقاتلون الشجعان معاركهم، ويمكن لجيوش أن تنتصر في المعارك ثم تخسر الحرب. فالحرب ليست مسألة بطولة فقط، بل استراتيجية: أي مواءمة الأهداف السياسية مع الوسائل العسكرية. وهنا بالضبط تنشأ أهمية حقل الدراسات الاستراتيجية.
تركّز الدراسات الاستراتيجية على التفاعل بين الأهداف السياسية والأدوات العسكرية ضمن القيود الاجتماعية والاقتصادية والسياسية. وكما أشار ريتشارد بيتس في مقاله الشهير "هل ينبغي أن تبقى الدراسات الاستراتيجية؟"، فإن هذا المجال يشغل موقعًا وسطًا بين الدراسات الأمنية العامة والدراسات العسكرية الضيقة. غايته ليست دراسة الحرب كقتال فحسب، بل دراسة استخدام القوة كأداة للسياسة.
رغم أن جذوره الفكرية تعود إلى العصور القديمة، فإن هذا التخصص الحديث تبلور خلال الحربين العالميتين ونضج أثناء الحرب الباردة. أسهم فيه عسكريون محترفون ومدنيون، جادلوا ليس فقط حول كيف تُخاض الحروب، بل أيضًا لماذا وبأي غاية. وبمرور الوقت ترسخ هذا الحقل في الجامعات ومراكز الأبحاث ودوائر صنع القرار في الغرب. وهو أكثر أهمية اليوم للعالم العربي، ما يطرح السؤال الجوهري: لماذا تهم الدراسات الاستراتيجية منطقتنا؟ ولماذا على المدنيين أن يهتموا بها؟
1- منطقة شكّلتها الحروب
لقد وُسم العالم العربي لعقود بالصراعات: حروب بين الدول، ثورات، حروب أهلية، تمرّدات، وتدخلات أجنبية. من فلسطين إلى لبنان، ومن العراق إلى سوريا، ومن اليمن إلى ليبيا، طبعت الحرب الحياة السياسية والاجتماعية. وقد تحدد مصير جماعات بأكملها بنتائج هذه الحروب، أو بالعجز عن خوضها. وفي مثل هذا السياق، يصبح فهم الاستراتيجية ضرورة لا ترفًا. بالنسبة للمواطنين والناشطين وصناع السياسات والمفكرين، فإن إدراك كيفية إدارة الحروب هو السبيل للتأثير في مجريات الأحداث بدلا من الاكتفاء بتحمّل نتائجها.
2- احتكار الأنظمة للقوة الصلبة
في معظم الدول العربية، تحتكر أنظمة الحكم أدوات القوة الصلبة: الجيوش وأجهزة الاستخبارات والشرطة. التفكير الاستراتيجي، حيث وُجد، يظل حكرًا على دوائر ضيقة من النخب العسكرية والأمنية. أما المدنيون فمستبعدون كليًا تقريبًا. والنتيجة كارثية: مؤسسات عسكرية مثقلة بالفساد والتسييس وانعدام الكفاءة. يُختار الضباط على أساس الولاء للنظام لا الكفاءة أو القدرة الفكرية. كثيرون ينحدرون من خلفيات تعليمية متواضعة، ويترقون داخل أنظمة تُحبط الابتكار والتفكير النقدي.
تنعكس العواقب في الأداء العسكري: إخفاقات مصر المتكررة في حروبها مع إسرائيل، والكوارث العراقية في حربي الخليج، كلها شواهد على إفلاس هذا النظام المغلق. وكما حذّر برنارد برودي: "الاستراتيجية أهم من أن تُترك للجنرالات وحدهم." وفي السياق العربي، يزداد هذا التحذير إلحاحًا، إذ إن المجتمعات هي من تدفع الثمن.
3- حقل تهيمن عليه الغرب
رغم أن الفكر الاستراتيجي ضارب الجذور في حضارات عديدة — الصينية واليونانية والشرق أوسطية — إلا أن التخصص الأكاديمي الحديث في صورته المؤسسية غربي بالأساس. فقد تطور في جامعات ومراكز أبحاث ومؤسسات دفاعية غربية، أولًا لخدمة المصالح الغربية.
وساهمت فيه قوى أخرى كروسيا والصين، لكن الأطر الأكثر انتشارًا وتداولًا تبقى غربية الجوهر. وهذا يخلق معضلة للعالم العربي: فاستيراد الدراسات الاستراتيجية بصورتها الغربية لا يلبّي بالضرورة الخصوصيات الثقافية والسياسية والتاريخية للمنطقة.
المطلوب ليس رفض المجال، بل الإسهام فيه: تطوير مقاربات تعكس التجارب والقيم والمصالح المحلية. في منطقة هشة حيث البقاء ذاته على المحك، فإن "توطين" الدراسات الاستراتيجية ضرورة ملحّة لا خيارًا.
4- دور الفاعلين من غير الدول
لم تقتصر الصراعات في الشرق الأوسط على الجيوش النظامية. فقد لعبت الفصائل غير الدولتية — من حركات المقاومة والتمرد والميليشيات إلى تشكيلات أخرى — أدوارًا حاسمة في صياغة البيئة الأمنية. وبحسب زاوية النظر، قد يُنظر إليها كحركات تحرر أو توصف كإرهابية، لكن أثرها الاستراتيجي والسياسي لا جدال فيه.
لقد غيّرت هذه الفواعل طبيعة الحرب وأساليبها، وفرضت على الجيوش النظامية استنزافًا طويلًا، وأجبرت القوى الإقليمية والدولية على تعديل استراتيجياتها. من لبنان إلى العراق، ومن فلسطين إلى سوريا، أثبتت الجماعات غير الدولتية قوة الحرب غير المتماثلة وحدودها في آن واحد.
وعليه، لا بد أن تتناول الدراسات الاستراتيجية في العالم العربي هذه التجارب بجدية، بدراسة علمية منضبطة: كيف تخوض هذه القوى حروبها؟ وكيف تتلقى المجتمعات وتتعامل معها؟ أما حصر التفكير الاستراتيجي في منظور الجيوش النظامية فقط فهو تجاهل لنصف قصة الصراع في منطقتنا.
5- التكنولوجيا وتحوّل وجه الحرب
بينما يرى البعض أن طبيعة الحرب لم تتغير كثيرًا عبر القرون، فإن قلة هم من ينكرون أن الثورات التكنولوجية غيّرت وجهها. من الذخائر الموجهة بدقة إلى الطائرات المسيّرة والحرب السيبرانية، أدت التكنولوجيا الجديدة إلى إعادة تشكيل التكتيكات والعقائد وحتى ميزان القوى.
يتجلى ذلك في أوكرانيا، حيث تلعب المسيّرات والحرب الإلكترونية أدوارًا مركزية، وفي سماء الشرق الأوسط، حيث تعيد الصواريخ والطائرات بدون طيار صياغة معادلة الردع. في مثل هذا السياق، يصبح للباحثين المدنيين والعلماء والمحللين دور أساسي. ففهم هذه التحولات ودمجها في استراتيجيات متماسكة لا يمكن تركه للمؤسسات العسكرية وحدها.
نحو ثقافة للدراسات الاستراتيجية في العالم العربي
إن مجمل هذه العوامل يفضي إلى خلاصة واحدة: توطين الدراسات الاستراتيجية في العالم العربي وتأسيسها مؤسسيًا هو ضرورة عاجلة. لقد أثبت احتكار الأنظمة والجيوش للاستراتيجية فشله الذريع، فيما جعل غياب المشاركة المدنية المجتمعات عرضة للخطر.
الحرب قد تكون فنًا أو علمًا، لكنها بالتأكيد ليست لعبة. وفي منطقتنا، حيث دفع ملايين المدنيين ثمن الإخفاقات الاستراتيجية — من العراق إلى سوريا، ومن لبنان إلى غزة — فإن الاستراتيجية أهم من أن تظل حكرًا على الجنرالات والأجهزة الأمنية.
وكما حذر ريتشارد بيتس "لا ينبغي للهواة أن يتحكموا فيما لا يفهمونه، خصوصًا في مجال تترتب عليه حياة جيوش بأكملها." أما في العالم العربي، فلا يتعلق الأمر بالجيوش وحدها، بل بملايين المدنيين الذين تتوقف حياتهم على تفكير استراتيجي سليم. ومن أجلهم، ومن أجل مستقبل المنطقة، يجب أن تتحول الدراسات الاستراتيجية من علم غربي مستورد أو سر عسكري مغلق، إلى جزء من حياتنا الفكرية والمدنية.